الجيوبوليتيك السوداني : ثراء طبيعي وحقيقة تنموية معقّدة

*الجيوبوليتيك السوداني : ثراء طبيعي وحقيقة تنموية معقّدة* الجيوبوليتيك هو علم يدْرُس العلاقة بين الجغرافيا والسياسة، ويُركّز على كيفية تأثير العوامل الجغرافية (مثل الموقع، والموارد، والحدود، والممرات المائية، والتضاريس) على سلوك الدول، وصياغة استراتيجياتها، وصراعاتها، وتحالفاتها. *السودان* يشكّل حالة فريدة في المشهد الجيوبوليتيكي الإفريقي والعربي، حيث يتقاطع الثراء الطبيعي مع الفقر في التنمية والتطور، وسط موقع استراتيجي ومشهد داخلي معقد. هذه الظاهرة ليست مجرد نتيجة جغرافية، بل انعكاس لتاريخ وسياسة أثّرت على كيفية إدارة البلاد لمواردها. *الموقع والمكان: مفتاح لفهم الواقع* الموقع: السودان يمتد في قلب القارة الإفريقية ويمثل حلقة وصل بين ضفتي العالم العربي وأفريقيا جنوب الصحراء، ويساعد امتلاكه لأكثر من 700 كيلومتر من ساحل البحر الأحمر على تعزيز دوره في التجارة الدولية وهذا الموقع الإستراتيجي يجعل السودان مميز وقوي إذا تم إستغلاله بالصورة الصحيحه. المكان الداخلي: تنوع مناخي بين الصحراء والسافانا، تضاريس متنوعة، وتركيبة إثنية وثقافية متعددة. هذا التباين يفرض تحديات في توظيف الموارد بكفاءة وهو أيضاً تحدي للحكومات في كيفية إستثمار هذا التنوع في تحريك المجتمع نحو الإنتاج والقضاء على البطالة وأيضاً رفد خزينة الدولة بالمال عبر المشاريع الإستراتيجية الكبرى. *الدور الإقليمي والدولي* الدور الإقليمي للسودان يبرز بقوة في موقعه عند البحر الأحمر وعلى طرق قوافل التجارة. السودان تجمعه الحدود مع سبعة دول وذلك يجعله ممراً استراتيجياً بين أوروبا، الخليج، ووسط إفريقيا ولا ننسى طريق الحرير الممتد إلى الصين بعد قيامها بإدخال إفريقيا في هذا المشروع التجاري القديم. وبسبب هذا الموقع لطالما كان السودان ساحة لصراعات النفوذ، من الحقبة الاستعمارية إلى التنافس الحديث بين بعض الدول الكبرى والتي جاء دور بعضها سالباً بدعم الحروب والإنقلابات لتتمكن من السيطرة على السودان والإستفادة من موقعه وموارده. الواقع السوداني الداخلي، بما فيه من تنوع وتعقيد، لا يستطيع بسهولة التكيّف مع هذه التدخلات، بل كثيرًا ما تتحوّل إلى عوامل تزيد الأوضاع توتراً بدلاً من أن تسهم في الاستقرار. *رغم إمكانياته المادية، السودان يواجه أزمة تنموية:* ثراء متنوع مقابل ضعف تنموي أراضي زراعية تمتد على ملايين الفدادين مياه وفيرة من نهر النيل وروافده. احتياطات من الذهب، الكروم، اليورانيوم، إضافة إلى نفط وغاز مع توفر إمكانات متقدمة للطاقة المتجددة. *إلا أن ثمة أسباب عميقة وراء فجوة التنمية:* عدم الإستقرار السياسي أنتج حالة من عدم الإستمرار في المشاريع ، فنجد أن الرؤية الإستراتيجية تتغير من مسؤل إلى آخر في نفس المؤسسة وكل شخص يأتي عقب آخر يقوم بهدم ماوجده من بناء ليشيد تماثيل تحمل إسمه . وبالتأكيد النزاعات والحروب الداخلية والإقليمية تستهلك الموارد وتحد من الجهود التنموية فنجد أن مشروع مثل طريق الإنقاذ الغربي وهو طريق يربط الشمال والوسط بغرب السودان على طول 1.200 كيلو لم يكتمل حتى الان لأكثر من 31 عاما والسبب الرئيسي لعدم إكتماله الحرب الدائرة في دارفور (غرب السودان). ودائماً التدخل الأجنبي يزيد من الاعتماد على الآخرين، ولا يساعد على تحقيق تنمية ذاتية بل يسبب ضعف في البنية التحتية وتغييب للرؤية الإستراتيجية التنموية وتراكم الديون الخارجية. *المنعطف التاريخي* منذ الاستقلال، كان التنقل الدائم بين الهوية العربية والإفريقية وقصور الرؤية الإستراتيجية في العلاقات الدولية جرحاً لم يلتأم، تجسد بمشاكل الجنوب، دارفور، والشرق. انفصال جنوب السودان عام 2011 مثَّل لحظةً فاصلة، بسقوط ثلث إنتاج النفط ومزيد من الهشاشة، خاصة في استراتيجيات التعامل مع البحر الأحمر. وكل ذلك أضعف الدولة داخلياً ورويداً رويداً فقد السودان موقعه الطبيعي والمؤثر دولياً . *آفاق مستقبلية* رغم العوائق، تبقى فرص السودان قائمة: تعزيز مؤسسات قوية تسيطر على الموارد وتدعم السيادة. تبَنِّي سياسات تنموية تراعي التعدد الإثني والجغرافي. اتباع سياسة خارجية عقلانية متوازنة بعيداً عن الصراعات الإقليمية مبنية على المصالح المشتركة ومبدأ (رابح رابح). *ويمكن تحويل السودان إلى لاعب إقليمي*: إذا تم إستغلال الموارد و إدارتها بواسطة إدارة *حكيمة ومخلصة*، أما الفوضى القائمة ستبقيه ساحة لصراعات النفوذ تبتلع موارده وتفُرّغ جهوده. لا يُعقل أن يظل السودان، بكل ما يملكه من ذهب ومعادن نادرة، وموقع جغرافي فريد، وأراضٍ زراعية خصبة، يعيش في دوامة الفقر والتراجع. فالثروة وحدها لا تصنع الازدهار إن لم تُصاحبها رؤية واضحة ومؤسسات قوية تدير الموارد بكفاءة وشفافية. ما يحتاجه السودان اليوم ليس اكتشاف الثروات، بل إعادة اكتشاف نفسه، عبر مقاربة شاملة تضع الإنسان والإدارة في قلب معادلة التنمية، حتى تتحول مفارقة الثراء والفقر إلى تجربة نهوض حقيقية يكتبها أبناؤه بأيديهم. ولعل السودان هو البلد الوحيد الذي يبدو فيه *الماضي أبهى من الحاضر*، ولن تنقلب هذه المعادلة إلا إذا نهض أهله لتغيير ما بأنفسهم.

منير معاوية علي

7/3/2025