السودان والصمغ العربي: حين تمسك الطبيعة بمفتاح النفوذ العالمي
السودان والصمغ العربي: حين تمسك الطبيعة بمفتاح النفوذ العالمي بقلم: منير معاوية علي في قلب القارة الإفريقية، وعلى امتداد السهول والغابات السودانية التي تتنفس من ضفاف النيل، تنمو أشجار الهشاب بصمت. لكن ما تقذفه من أغصانها ليس مجرد إفراز نباتي، بل ثروة استراتيجية اسمها: الصمغ العربي. مادة شفافة، تتكوّن في صمت، وتُحرّك في المقابل عجلة الصناعات الكبرى حول العالم. الصمغ العربي… ما خفي كان أعظم قد لا يراه المستهلك العادي، لكن الصمغ العربي يدخل في تركيب مئات المنتجات حول العالم، من أشهر المشروبات الغازية إلى الأدوية الحيوية، ومن مستحضرات التجميل إلى الصناعات الغذائية والدوائية، وحتى الفضائية، حيث يُستخدم في تطبيقات دقيقة كمادة رابطة للمواد النانوية والجزيئات الحساسة، نظرًا لخصائصه اللاصقة، وقدرته على التغليف والتثبيت وحماية الأجهزة والمكونات الدقيقة في المركبات الفضائية. ويعود ذلك لقابليته للتحلل الحيوي وثباته النسبي في مختلف الظروف الجوية، كما يُستخدم في النظام الغذائي لرواد الفضاء. بصمت، أصبح الصمغ العربي ركيزة لا غنى عنها في الصناعات الحديثة. ورغم ذلك، لا يُمنح التقدير الذي يستحقه… لا عالميًا ـ وأعتقد أن ذلك مقصود من بعض الدول الكبرى لئلا تُلفت أنظار الدول المُنتِجة إلى أهميته ـ ولا داخل السودان نفسه، وهو الأمر الغريب، رغم علم الحكومات المتعاقبة والعلماء والباحثين في علوم النبات بأهميته. السودان… يحتكر الإنتاج ويفرّط في العائد ما لا يعرفه كثيرون أن السودان وحده ينتج نحو 80% من الصمغ العربي عالميًا. تلك النسبة الهائلة تمنحه قوة لا تُضاهى، لكنها للأسف لم تُترجم إلى نفوذ اقتصادي حقيقي. لا تزال المادة تُصدَّر خامًا، دون تصنيع أو قيمة مضافة، في حين يُعاد تصديرها من مصانع الخارج بأضعاف السعر، بينما يبقى المزارع السوداني محاصرًا في دوامة الفقر، وتبقى مؤسسات الدولة عاجزة عن إدارة هذه الثروة بما يليق بها. درس من واشنطن… حين خضعت القوة للمادة من أبلغ الشواهد على أهمية الصمغ العربي، أنه كان الاستثناء الوحيد تقريبًا في العقوبات الأمريكية على السودان. حين فرضت واشنطن حصارًا اقتصاديًا شاملاً، استثنت هذه المادة من القائمة؛ إذ لم تكن شركات الأدوية والغذاء الأمريكية مستعدة لتحمّل غيابه. فالمصالح سبقت السياسة، وفرض الواقع نفسه بقوة “الذهب الشفاف”. كانت تلك لحظة نادرة امتلك فيها السودان ورقة ضغط عالمية… ثم ضاعت، كالعادة. ما العمل؟ من خامة خاملة إلى سياسة سيادية الفرصة لم تذهب بعد. ما زال بالإمكان بناء رؤية وطنية تُحوّل الصمغ العربي من منتج زراعي إلى مشروع سيادي. نحتاج إلى: جهاز قومي مستقل لإدارة الملف، بعيدًا عن الفساد والمحسوبية. حماية الغابات المنتجة بقانون صارم. مصانع تحويلية داخل البلاد تُنتج وتُصدّر وتُشغّل. علامة تجارية سودانية عالمية تنافس في الأسواق الكبرى. إدماج الصمغ ضمن رؤية استراتيجية بيئية وتنموية شاملة. من التصدير إلى التأثير: الاقتصاد كقوة ناعمة الصمغ العربي ليس فقط سلعة تصديرية، بل يمكن أن يكون أداة سياسية ناعمة. يستطيع السودان استخدامه في صفقات إنسانية، وفي شراكات أخلاقية مع الدول الفقيرة، للضغط الإيجابي. يمكن ربط هذه المادة بالسلام والتعاون الدولي، بدلًا من بقائها حبيسة صوامع الخام. كما يمكن إدماجها في مبادرات بيئية واقتصادية تفتح الباب لتحالفات استراتيجية جديدة. ليست معجزة… بل قرار ما ينقص السودان ليس الإمكانيات؛ لا الأرض، ولا الغابات، ولا الخبرة. ما ينقصنا هو العقل السيادي، الذي يرى في كل شجرة هشاب فرصة للنهوض، لا مجرد شجرة مهملة في أرض بعيدة. نحتاج إلى من يقرأ الصمغ العربي كقضية أمن قومي، لا فقط كزراعة تقليدية أو سلعة إستراتيجية قومية. نجد أنفسنا في حيرةٍ من أمرنا؛ بلادٌ حباها الله بكل هذه الخيرات، ولا تزال ترزح تحت وطأة الفقر، ويتغنّى كبارها بماضٍ بهيج، بينما يلعن شيبها وشبابها حاضرًا قاتمًا. وعندما نفكّر فقط في ثروةٍ واحدة من كنوز البلاد، وهي الصمغ العربي، تتجدد أمامنا الحقائق التالية: الصمغ العربي هو “الذهب الشفاف” الذي يمكن أن يكون مفتاح النهضة السودانية. السودان يحتكر الإنتاج عالميًا، لكنه لا يحتكر القيمة المُضافة. المطلوب ليس معجزة، بل خطة وطنية بعقلٍ سيادي وضميرٍ حي. إذا أدركنا أهمية هذه الثروة، فقد نُعيد رسم موقع السودان في الاقتصاد العالمي، لا كمجرد دولة نامية، بل كقوة ناعمة فاعلة. كنز بلا حارس السودان يمتلك الثروة، لكنه لا يديرها. العالم يعرف قيمتها، بينما نحن نغفل عنها. التصنيع ممكن، والعلامة التجارية قابلة للبناء، والأسواق تنتظر. هل نملك الشجاعة؟ ليس السؤال: هل ننتج الصمغ العربي؟ بل: هل نمتلك الإرادة لإدارته بذكاء؟ هل نمتلك جهازًا وطنيًا لا يخضع للمصالح؟ هل نحمي الغابات من التعدي؟ هل نضع الخطة، ونصنع القيمة، ونُصدّر الرؤية قبل المادة؟ وبالطبع، لا تكمن المشكلة في نقص الموارد، بل في غياب الإدارة الواعية والإرادة السياسية الصادقة. السودان لا تنقصه الثروات، بل تنقصه الرؤية. الصمغ العربي، هذا “الذهب الشفاف”، ليس مجرد منتج زراعي، بل فرصة استراتيجية لوضع السودان في قلب سلاسل القيمة العالمية. العالم يعرف قيمته، ويستثمر فيه، بينما نحن نُهمل، ونُفرّط، ونترك كنوزنا تُباع بثمن بخس. لم يعد السؤال المطروح اليوم: هل نُنتج الصمغ العربي؟ فالإنتاج قائم، لكن التحدي الحقيقي يكمن في ما هو أبعد من ذلك: هل نمتلك الشجاعة لصياغة خطة وطنية متكاملة تضع هذه الثروة في مكانها الاستراتيجي الصحيح؟ هل نملك مؤسسة مهنية مستقلة، تقاد بالكفاءة لا بالمحاصصات، وتعمل وفق رؤية تنموية لا اعتبارات سياسية؟ هل نحمي غاباتنا من التعدي والإهمال، ونجعل من الحفاظ عليها أولوية بيئية واقتصادية؟ هل ننتقل من تصدير المادة الخام إلى التصنيع المحلي، بما يعزز القيمة المضافة ويخلق فرص العمل؟ وهل نصدر وفق رؤية واضحة توازن بين الكم والجودة، وبين العائد المالي والدور الجيو اقتصادي الذي يمكن أن يلعبه السودان في هذا المجال؟ الإجابة عن كل ذلك تبدأ من قرار. قرار بأننا نستحق أن نكون أكثر من مجرد مصدرٍ للخام، وأن نُعيد للسودان مكانته، لا بالهتاف، بل بالفعل. إذا لم نغتنم هذه الفرصة، فسنظل نملك الثروة، لكننا سنبقى غرباء عنها. من هنا تبدأ النهضة… من شجرة تهبنا خيرها بلا مقابل. من مشروع نمتلك فيه الموقع والتاريخ والقدرة. من كنز شفاف، ينتظر من يمنحه الضوء والقرار. فلنمنح الصمغ العربي ما يستحق… ولنمنح الوطن ما يستحق.
منير معاوية علي
7/19/2025

