السودان.. النهضة المؤجلة بين ثروة الأرض ومعاناة الشعب

*السودان.. النهضة المؤجلة بين ثروة الأرض ومعاناة الشعب* بقلم: أ. منير معاوية علي *السودان أرض الخيرات المؤجلة* السودان قلب إفريقيا النابض ، حيث يلتقي النيل بالصحراء وغابات السافنا بالغابات الاستوائية وسلسلة الجبال بالبحر، حيث تتناثر الخيرات فوق الأرض وتحتها، يتموضع السودان، وطنٌ لم تكن مساحته الجغرافية وحدها ما ميّزه، بل ثرواته الطبيعية التي قلّ أن تجتمع في بلد واحد. أرضه الزراعية الخصبة قادرة على إطعام العالم (سلة غذاء العالم)، وثروته المائية لا تنضب بمجرى النيل العظيم المبارك وروافده، بينما تختزن باطنه كنوزاً مثل الذهب، والكروم، والنحاس، والجرافيت، إلى جانب ثروة حيوانية وسمكية تُعد من الأغزر في القارة السمراء. ومع ذلك، يبقى السودان واحداً من أكثر الدول التي لم تستثمر إمكانياتها بعد، لتظل المفارقة الغريبة: وطن غني بالخيرات، فقير في واقع التنمية مع تفشي الفقر وسط مواطنيه. *الحقبة البريطانية: استغلال قاسٍ وإنجازات باقية* لا يمكن قراءة مسار السودان الحديث دون التوقف عند فترة الحكم الإنجليزي (1899 – 1956). صحيح أن الاستعمار مرتبط بالاستغلال، لكنه أيضاً ترك بصمات لا يمكن إنكارها. ففي تلك الحقبة شُيّدت السكك الحديدية، وأُقيمت مشاريع الري والسدود، وأطلق مشروع الجزيرة الذي جعل من القطن المورد الأول للبلاد. القطن، ذلك "الذهب الأبيض"، كان العمود الفقري لخزينة المملكة المتحدة لعقود، يغذي مصانع مانشستر بالنسيج، بينما يشكّل للسودان أول تجربة اقتصادية كبرى. لكن ما جرى لم يكن تنمية وطنية بقدر ما كان توظيفاً لخيرات السودان لخدمة المستعمر. ومع ذلك، أثبتت تلك المرحلة بما لا يدع مجالاً للشك أن السودان يمتلك قدرات هائلة إذا وُضعت في إطار وطني رشيد. *من الاستقلال إلى اليوم: أحلام لم تتحقق* نال السودان استقلاله عام 1956، وسط أحلام كبيرة ببناء دولة حديثة تستند إلى غنى موارده. لكن تعاقب الأنظمة ، وغياب الاستقرار السياسي، والحروب الأهلية، والإستهداف الخارجي كلها أجهضت حلم النهضة. وأرى كما يرى الكثير من المحللين أن القوى الاستعمارية القديمة، مثل بريطانيا، والقوى الحديثة التي تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية، لم تتعامل مع السودان باعتباره مجرد دولة في قلب إفريقيا، بل كخزانة استراتيجية مؤجلة يمكن العودة إليها عند الحاجة. وأَسْتَدِل على ذلك بتجربة شركة شيفرون الأمريكية، التي حصلت عام 1974 على امتياز التنقيب عن النفط في السودان، ونجحت فعلياً في اكتشاف أول حقل نفطي بمنطقة أبو جابرة عام 1978، ثم تواصلت الاكتشافات في مناطق هجليج والوحدة خلال الثمانينيات. لكن المفارقة أن الشركة، وبعد إنفاق ما يقدر بنحو 1.2 مليار دولار على عمليات التنقيب، أوقفت نشاطها في السودان عام 1984 بحجة اندلاع الحرب الأهلية . وبحسب تقارير متواترة، قامت الشركة عند انسحابها بردم العديد من الآبار المكتشفة بالخرسانة والحديد، ما جعل إعادة تأهيلها لاحقاً أكثر تكلفة من البدء في حفر آبار جديدة. هذه الخطوة أثارت جدلاً واسعاً حول نوايا الشركة، وأعتبرها شخصياً دليلاً على أن السودان وُضع عمداً في خانة "الخزانة الاحتياطية" التي تُترك خاماتها الإستراتيجية دون استغلال، لتظل متاحة للقوى الكبرى في اللحظة التي تراها مناسبة. وما يؤلم أكثر حقيقة أن ماضي السودان أفضل من حاضره. ففي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت الخرطوم توصف بـ"باريس أفريقيا"، وكان نظام التعليم والصحة من الأفضل في المنطقة. اليوم، يعاني المواطن من أزمات الكهرباء والمياه والدواء، ومن غياب الخدمات الأساسية. إنها مفارقة نادرة: بلد تتراجع مؤشرات حياته رغم وفرة موارده. وسط هذا المشهد، يظل الشعب السوداني متمسكاً بالأمل. يحلم بالعدل، والتعليم، والعمل، والكرامة. وكما جاء في الحديث النبوي الشريف: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، فإن النهضة تبدأ من الداخل، من إرادة الناس على التغيير، قبل أن تأتي من أي دعم خارجي. *استراتيجيات النهضة: دروس من رواندا* النهضة الوطنية ليست شعاراً سياسياً، بل خطة شاملة تقوم على التعليم، والحكم الرشيد، والتنمية الاقتصادية، والوحدة الوطنية. ولعل التجربة الرواندية تقدم دروساً بالغة الأهمية. رواندا، التي عانت من إبادة جماعية عام 1994 راح ضحيتها نحو مليون إنسان في مئة يوم، تمكنت خلال عقدين فقط من أن تتحول إلى دولة يُشار إليها بالبنان في أفريقيا. كيف؟ عبر قيادة رشيدة، استثمار في التعليم والتكنولوجيا، محاربة الفساد بلا هوادة، وبناء مؤسسات قوية. اليوم، تُصنف رواندا بين الدول الأكثر أمناً وتنظيماً في القارة، واقتصادها ينمو باستمرار. هذه التجربة تؤكد أن النهضة ممكنة حتى من تحت الركام، إذا توافرت الرؤية والإرادة. *خطوات عملية لنهضة السودان* قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُو۟لَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ﴾، والأمن هو الأساس الذي تُبنى عليه النهضة وتستقيم به حياة الأمم. فلا تنمية بلا أمن، ولا عدالة بلا استقرار، ولا ازدهار بلا وطنٍ آمنٍ مطمئن. والسودان اليوم أحوج ما يكون إلى أبنائه المخلصين الذين يضعون مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ويجعلون من تضحياتهم جسراً تعبر عليه الأجيال القادمة إلى مستقبل أفضل. ولكي ينهض السودان من ركام أزماته المزمنة ويستعيد مكانته بين الأمم، فلا بد من خطة عملية تقوم على أسس واضحة: * تطوير البنية التحتية: بناء شبكة طرق حديثة تربط أطراف البلاد وتفتح شرايين التجارة، وتوفير الكهرباء والمياه النقية والإنترنت باعتبارها العمود الفقري لأي اقتصاد عصري. * إعادة بناء التعليم: إصلاح جذري للمناهج وربطها بسوق العمل، دعم البحث العلمي ليكون قاطرة الابتكار، وتمكين المعلم ليعود قائداً وصانع أجيال، فبالعقول تتقدم الأوطان. * تنمية الزراعة والصناعة: تحديث تقنيات الزراعة وتقديم الدعم للمزارع المنتج، مع تطوير الصناعات التحويلية التي تضيف قيمة إلى الإنتاج المحلي وتجعل السودان مركزاً اقتصادياً مزدهراً. * استغلال الموارد الطبيعية بشفافية: إنشاء صناديق وطنية لإدارة عوائد الذهب والمعادن والبترول، مع ضمان توجيهها نحو التعليم والصحة والتنمية المستدامة، بعيداً عن الفساد والاحتكار. * ترسيخ الحكم الرشيد: محاربة الفساد بقوة، تعزيز الشفافية، استقلال القضاء، وبسط العدالة بين المركز والولايات، ليشعر كل مواطن بأن الوطن وطنه والحقوق حقوقه. إن هذه الخطوات ليست شعارات تُقال في المناسبات، بل خارطة طريق إذا ما حملها أبناء السودان المخلصون بصدق وإرادة، فإنها ستفتح أبواب الغد المشرق وتعيد للوطن عافيته وعزته ومكانته التي يستحقها. *الوحدة الوطنية والشباب: ركيزتا المستقبل* إن السودان بتنوعه الثقافي والإثني والديني يمتلك ثروة بشرية لا مثيل لها. هذه التعددية يجب أن تُدار باعتبارها مصدر قوة، لا مدعاة للانقسام. فالوحدة الوطنية ليست شعاراً، بل شرطاً لبقاء الدولة. أما الشباب، الذين يشكلون أكثر من 70% من السكان (وذلك وفقاً لتقارير الأمم المتحدة World Population Prospects)وهو الأمر الذي لا يتوفر في كثير من الامم، فهم مفتاح المستقبل. على عاتقهم تقع مسؤولية التغيير، فهم جيل التكنولوجيا والعلم والوعي العالمي. لا مجال للانتظار أو السلبية، فالنهضة تحتاج إلى جهد وتضحية وإيمان بالمسؤولية الجماعية. *السودان قادر إن أراد* : السودان يملك كل مقومات النهضة بل دعونا نكون أكثر وضوحاً (كل مقومات الدولة العظمى): الأرض، الماء،تعدد المناخات، الذهب والمعادن الأخرى، الموقع الاستراتيجي، الموانئ، والعنصر البشري. ما ينقصه فقط هو الإرادة الصادقة، والرؤية الواضحة، والقيادة التي تضع الوطن فوق المصالح الضيقة. لقد أثبت التاريخ أن الدول لا تنهض بالثروة وحدها، بل بالإنسان الذي يحسن إدارتها. والسودان، برغم أزماته، يظل بلداً قادراً على النهوض إذا اجتمع أبناؤه على كلمة سواء. *فلنبدأ الخطوة الأولى اليوم، لا غداً. فالتاريخ لا ينتظر المترددين ، ولنمنح أبناءنا وطنًا يليق بأحلامهم*

أ. منير معاوية علي

8/26/20251 دقيقة قراءة