الغوغائية..مثال وعبرة
كنت قد وعدتكم في المقال السابق أن أكتب لكم مثالاً عن الغوغائية التي حدثت في سوداننا الحبيب في القرن التاسع عشر (من وجهة نظري كباحث) حيث أن الأحداث التي سأوردها هنا ذات طابع جدلي بين النفي والتأكيد وأجد نفسي للأمانة والتأريخ ملزماً بكتابة (إن صدق المؤرخين الذين أرخوا لتلك الفترة) . تحرير الخرطوم نعلم جميعاً أن تحرير الخرطوم تم على أيدي الثوار (الثورة المهدية) وذلك في العام 1885م بعد حصار دام حوالي العشرة أشهر ولست بصدد محاكمة هذه الفترة ولكن سأورد بعض المشاهد التي رواها بعض المعاصرين لتلك الفترة رغم أنهم ليسو سودانيين ولكنهم أرخو لهذه الفترة فقد كانوا أسرى لدى الإمام المهدي. الثورة المهدية إرتكزت على دوافع دينية حيث إقتنع الثوار بأن زعيم الثورة (محمد أحمد ) هو المهدي المنتظر وأن إتباعه واجب ديني . فهيا ندلف للوقائع التي أود أن أسقطها على مصطلح (غوغائية) وأكرر أنها ليست محاكمة لتلك الفترة ولكنها أخطاء حدثت أوردها هنا دون الحديث عن الثورة ككل ومدى فائدتها أو ضررها على السودان. الضابط النمساوي (رودلف سلاطين) المعروف ب (سلاطين باشا) المولود عام 1857م والذي خدم في الجيش المصري التركي وكان حاكماً لإقليم دارفور قبل أن يستسلم للثورة المهدية وعمل مع الإمام المهدي والخليفة عبدالله قبل أن يتم أسره بعد الشكوك التي دارت حوله قبل تحرير الخرطوم . كتب سلاطين باشا كتاباً بعنوان (السيف والنار في السودان) وتم نشر الكتاب في العام 1895م والذي سرد فيه تجربته منذ دخوله السودان وحتى فراره من الدولة المهدية وقد كتب عن بعض الفظائع التي لحقت بالخرطوم أثناء وبعد تحرير الخرطوم على أيدي (الثوار) والذين يطلق عليهم لقب (الدراويش) حيث قام الدراويش بإرتكاب مجزرة بعد قتلهم لحاكم السودان (غوردون باشا) . بدأ الكاتب في رواية أول جريمة حيث ذكر أن رُبّان الباخرة المخصصة لغوردون (الإسماعيلية) ويدعى (فرغلي) والتي كانت راسية بالقرب من سرايا الحاكم (القصر الجمهوري الحالي) وذلك لإجلاء غوردون بعد زحف جيوش المهدية نحو السرايا ، ولكن غوردون لم يأتي إلى الباخرة الإسماعيلية وقد شاهد (فرغلي) جنود الإمام المهدي (الثوار) وهم يدخلون بأعداد كبيرة إلى السرايا فأبحر بالباخرة ذهاباً وإياباً أمام المدينة (الخرطوم) حتى جائه العفو والأمان من المهدي ، وقَبِلَ (فرغلي) العفو وذلك لوجود زوجته وإبنه في الخرطوم ، وعند دخوله للخرطوم ذهب مسرعاً لمنزله ووجد أن إبنه البالغ من العمر عشرة سنوات قتيلاً ووجد زوجته أيضاً قتيلة بحراب (الثوار) ، ويسترسل الكاتب ليذكر أن الفظائع والتجاوزات التي أرتكبت أثناء تحرير الخرطوم أمرٌ يجل عن الوصف (حسب تعبيره) ولم يتم إستثناء أحد من هذه التجاوزات سوى الأرقاء من الذكور والإناث والنساء الصغيرات الحسناوات الذين تم سبيهم وتوزيعهم على الإمام المهدي والخلفاء والأمراء، وقد كان من الكافي جداً أن يصيح البعض بأن هذا الشخص لا يؤمن بالإمام المهدي ليقوم (الثوار) بالإحاطه به وغرز رماحهم في صدره ويردوه قتيلاً. ويذكر (سلاطين) في كتابه أن بوسع المرء أن يكتب مجلداً حول تفاصيل الأحداث الوحشية التي جرت في ذلك اليوم (تحرير الخرطوم). وذكر أيضاً أن أتباع المهدي دخلوا كل المنازل بحثاً عن الأموال المخبأه ولم يقبلوا أي عذر أو إنكار من سكان المنازل وكان كل من يشتبه في أنه خبأ أموالاً يتعرض للتعذيب . ومن الأحداث التي ذكرها (سلاطين) أنه عند دخول أتباع المهدي (الثوار) لسرايا الحاكم تم ذبح كل الجنود والخدم في السرايا وعندما وجدوا (غوردون) في الدرج الداخلي للسرايا وسألهم (أين زعيمكم المهدي) ولكن(الثوار) بادروه بغرز الرماح في جسده وتم فصل رأسه عن جسده وتم تقطيع جثته بواسطة آلاف الجنود الثائرين ، وعندما تم إحضار رأس (غوردون) للمهدي ذكر لهم الإمام أن من الأفضل لو تم إحضار (غوردون) حياً ليدعوه للإسلام ، ولكن الكاتب من وجهة نظره (سلاطين) أن الإمام المهدي لو أصدر توجيهاً مسبقاً بعدم قتل (غوردون) وإحضاره حياً لفعل الثوار ذلك ولما تجرأ أحد على قتله. القسيس النمساوي (جوزيف أورفالدر) كتب كتاباً بعنوان (عشر سنوات من الأسر في معسكر المهدي 1882م-1892م) وتم نشر الكتاب في العام 1892م ، وقد تم أسر القسيس (جوزيف) ومعه عدد من الراهبات بواسطة الثورة المهدية قبل أن يتمكن من الفرار بعد عشرة سنوات من الأسر ..سأورد بعض ما حكى في كتابه عن فترة تحرير الخرطوم . ذكر الأب (جوزيف) أن قبيلة الشايقية كانت أكثر القبائل التي عوملت بقسوة شديدة ، فهي القبيلة الوحيدة التي ظلت موالية للحكومة ، وحتى بعد ثمانية أيام من (سقوط الخرطوم) (على حسب تعبير الكاتب) إذا شوهد شايقي فإنه سبب كافي لقيام (الثوار) بقتله على الفور ، ومن هنا جائت مقولة (الثوار) الشهيرة في ذلك الزمان ((الشايقي وود الريف والكلب مايلقو راحة في المهدية) وأما الكلاب فتعتبرها المهدية نجسة ويتم إعدامها. ويسترسل الأب (جوزيف) في كتابه ويقول عندما إنتهت المذبحة في الخرطوم أصدر المهدي بنفسه أوامر بعدم قتل الناجين ولكن الغضب الأعمى لهؤلاء العرب المتعصبين (الثوار) لم يهدأ إلا بعد قتل (10.000) نفس ، فالشوارع مكتظة بجثث بدون رؤوس وتُرِكت دون دفن إلى أن تم توزيع الغنائم . وذكر الأب (جوزيف) أن (الثوار) أتباع المهدي جمعوا جميع الفتيات الجميلات في الخرطوم وحاولت أعداد منهن التخفي بقص شعورهن لكي لايتم أسرهن وتم وضعهن في زرائب حيث تم تجهيز ثلاثة زرائب منفصلة الأولى للجميلات السودانيات والثانية للجميلات الأجنبيات وفي الزريبة الثالثة وضعت الجواري ذوات اللون الأسود. وذكر أيضاً القسيس (جوزيف) أن الثوار قاموا بتفتيش منازل المواطنين وأخذ جميع المجوهرات والحلي والذهب والفضة والأموال المملوكة للسكان بإعتبارها غنائم. وقد أشار الأب (جوزيف أولفاردر) أن الخليفة عبدالله بعد وفاة المهدي قد أصدر أمراً بإخلاء الخرطوم في شهر أغسطس 1885م وتم تنفيذ الأمر على الفور في يوم 4أغسطس1885م وتم تدمير الخرطوم وتهجير سكانها فقد هدمت المنازل وتم نقل خشب النوافذ والأبواب والبلكونات إلى أمدرمان. (إنتهى) إن صدق المؤرخان اللذان عاصرا هذه الفترة التأريخية فيمكن أن نطلق على ما فعله الثوار (الدراويش) مصطلح (غوغائية) ونتجت هذه الغوغائية من الحماس الجارف والإيمان القاطع بالإمام المهدي وأن كل من لايعتقد بهذا المعتقد فهو كافر دمه وماله وعرضه حلال وأعتقد أن المذابح التي حدثت كانت نتيجةً لغياب (الوعي) حيث أن الجهة المنظمة لهذه الثورة والتي إلتف حولها الثوار (الإمام المهدي) ومساعديه من الخلفاء والأمراء لم يصدروا تعليمات مسبقة بعدم قتل الأبرياء من السكان وقرئنا أن الإمام المهدي قد غضب بسبب قتل حاكم عام السودان (الجنرال غوردون) ولكن عدم إصداره أمراً مسبقاً أدى لما يعرف ب (مجزرة الخرطوم) والتي راح ضحيتها حوالي 10.000 شخص كان نصيب المدنيين من هذا الرقم حوالي 4000 مدني على حسب تقديرات بعض المؤرخين. ومن هذا المنطلق أدعو لنشر الوعي والتسامح وعدم أخذ القانون باليد لنبتعد عن (الغوغائية) البغيضة ، الإنسان كرمه الخالق عز وجل وأمر بعدم إهانته أو قتله أو ضربه إلا قصاصاً وفق ضوابط فصلتها الشريعة الإسلامية ويتم تنفيذها إحتكاماً للقضاء . معاً من أجل نشر الوعي رمضان مبارك ولكم تحياتي 🖋منير معاوية باحث في العلاقات الدولية الخرطوم 2 رمضان 1440ه 7 مايو 2019م
1/14/20251 min read

