الغزالي و ديكارت

العقل الواعي : من الشك إلى اليقين بين الغزالي وديكارت: مقاربات مختلفة لسؤال الحقيقة من هو أبو حامد الغزالي؟ هو فقيه ومتصوف وفيلسوف مسلم من القرن الخامس الهجري (1058–1111م)، عاش في خراسان (إيران الحالية)، ولقّب بـ"حجّة الإسلام"، وبلغت أفكاره ذروتها في كتبه مثل "إحياء علوم الدين" و"المنقذ من الضلال"، حيث قدّم تجربة عقلية وروحية فريدة بلغت بالشك إلى يقين صوفي وجداني. ومن هو رينيه ديكارت؟ فيلسوف ورياضي فرنسي من القرن السابع عشر الميلادي (1596–1650م)، يُعدّ مؤسس الفلسفة الحديثة، واشتهر بمقولته الشهيرة "أنا أفكر، إذن أنا موجود" (الكوجيتو)، التي بنى عليها نسقًا معرفيًا كاملاً ينطلق من الشك ليؤسس للعلم واليقين العقلي. ورغم الفاصل الزمني الطويل بين الرجلين، فإن تجربة الشك التي خاضها كل منهما تفتح بابًا للتساؤل الجدي: هل من الممكن أن يكون ديكارت قد تأثر بالغزالي؟ الغزالي: الشك تطهير للنفس في كتابه "المنقذ من الضلال"، يسرد الغزالي كيف قاده الشك إلى تجاوز التقليد، والتشكيك في الحواس، والعقل، والنصوص الموروثة. لم يكن شكّه عبثيًا، بل أداة تطهير للروح والعقل. وبخلاف كثير من مفكري عصره، لم يجد ضالته في الجدل الكلامي أو البرهان الفلسفي، بل في التجربة الصوفية. اليقين عند الغزالي ليس نتاج معادلة عقلية، بل نور يُقذَف في القلب. لقد اعتبر أن أعظم الحقائق لا تُنال بالبحث الخارجي، بل بالكشف الوجداني. ديكارت: العقل أداة الخلاص من الوهم في تأملاته، ينطلق ديكارت من الشك في كل شيء، حتى وجوده نفسه، ليعيد بناء المعرفة من الصفر. يبدأ بالكوجيتو: "أنا أفكر، إذن أنا موجود". هذه العبارة لم تكن مجرد استنتاج، بل لحظة تأسيس لحقيقة أولى لا تقبل النقض. العقل، في مشروع ديكارت، هو الحكم الأخير، وهو الأداة التي تميز بين الحقيقة والوهم. من هنا، بنى منهجًا عقليًا صارمًا يقوم على التحليل والوضوح والبديهة. الشك: طريق إلى الضياع أم جسر نحو اليقين؟ رغم تقاطع الغزالي وديكارت عند لحظة الشك، فإن خلفية كل منهما، وأسلوبه في خوض هذه التجربة، ونتيجتها، تختلف اختلافًا جذريًا. فالشك عند الغزالي لم يكن تمرينًا فلسفيًا فحسب، بل نتج عن أزمة روحية وجودية عميقة، هزّت كيانه وأفقدته الثقة في الحواس والعقل والموروثات. أما ديكارت، فقد انطلق من دافع عقلاني خالص، يسعى لتأسيس المعرفة على يقين لا يتزعزع، يقين يشبه في صلابته الحقائق الرياضية. ومع أن كليهما شكّ في الحواس والعقل، فإن الغزالي وسّع دائرة الشك لتشمل حتى المسلمات الدينية المتوارثة، بينما ركّز ديكارت على كل ما لا يمكن إثباته بوضوح، بما في ذلك الحقائق الحسية والبديهيات العقلية. وقد اختلفت نتائج الشك أيضًا: الغزالي خرج منه بيقين صوفي ذوقي ، مصدره "نور يقذفه الله في القلب"، لا يعتمد على المنطق بقدر ما يعتمد على التجربة الوجدانية. في المقابل، توصّل ديكارت إلى يقين عقلي ذاتي، ينبثق من الفكر نفسه، يبدأ من الكوجيتو ويُبنى عليه نسق معرفي متكامل. أما على مستوى المنهج، فقد سلك الغزالي طريق التأمل الروحي والتجربة الذوقية، في حين تبنّى ديكارت منهجًا تحليليًا صارمًا، يقوم على خطوات عقلية واضحة تميز بين الشك المنهجي والحقيقة المؤكدة. وهكذا، يتبيّن أن الشك، رغم خطورته الظاهرة، لم يكن طريقًا إلى الضياع عند أي منهما، بل جسرًا عبرا عليه إلى يقين شخصي متماسك، يختلف في طبيعته، لكنه يتحد في صدقه وعمقه. هل تأثر ديكارت بالغزالي؟ # لا توجد دلائل قطعية على أن ديكارت قرأ للغزالي مباشرة، غير أن عددًا من الباحثين، مثل محمد عابد الجابري (مفكر وفيلسوف مغربي) وغيره من المفكرين، أشاروا إلى تشابه لافت في المنهج، ورجّح آخرون، كداميان هورد، وجود صلات غير مباشرة من خلال الترجمات اللاتينية لأعمال فلاسفة المسلمين، كابن سينا والغزالي نفسه. واللافت أن مكتبات أوروبا في العصور الوسطى، خصوصًا إسبانيا وصقلية، كانت عامرة بترجمات تلك الأعمال، ما يفتح احتمالًا جديًا أن يكون ديكارت قد اطلع على مضامين فكرية تأثرت بالغزالي أو قرأ فعلياً للغزالي. ونجد أن بعض الباحثين يشيرون إلى إمكانية وصول ترجمة لكتاب "المنقذ من الضلال" إلى أحد المراكز اللاهوتية التي درس فيها ديكارت، ويذهب آخرون أبعد من ذلك حيث يؤكدون أن ديكارت قرأ كتاب "المنقذ من الضلال" وأن ترجمة للكتاب إطلع عليها الباحث التونسي الراحل"عثمان الكعاك" داخل مكتبة ديكارت الخاصة بمتحفه في باريس مع وجود إشارة بالخط الأحمر يرجح أنها بقلم ديكارت تحت عبارة "الشك أولى مراتب اليقين" . إثبات وجود الله: بين نور القلب وبرهان العقل في مسألة إثبات وجود الله، تباينت مناهج الرجلين. الغزالي اختار طريق التصوف، مؤكّدًا أن المعرفة الإلهية لا تُنال بالبرهان، بل بالكشف. الله يُدرك بالبصيرة لا بالبصر، وبالذوق لا بالعقل المجرد. أما ديكارت، فقدّم برهانين عقليين: السببية: إذا كانت لدي فكرة عن كائن كامل (الله)، فلا يمكن أن يكون مصدرها إلا كائنًا كاملًا بالفعل. الوجود الذاتي: وجودي المفكر لا يمكن أن يفسر ذاته بذاته؛ فلا بد من علّة أولى، موجود كامل أزلي، هو الله. هكذا، افترق الطريقان: واحد يرقى إلى الله بنور داخلي، والآخر يصعد إليه بسلم العقل. في زمن الأجوبة الجاهزة ... في عصر يفيض بالإجابات السريعة والنصوص المعلبة، يُعيدنا الغزالي وديكارت إلى زمن السؤال الأصيل. كلاهما، رغم الفارق الزمني والثقافي، اختار أن يشك لا ليدمر، بل ليبني. وهما بذلك، يُذكّراننا بأن أسمى مراتب الوعي لا تُمنح، بل تُكتسب، وأن اليقين الحقيقي لا يُشترى من السوق، بل يُنتزع من عمق المعاناة والتأمل الصادق. في تجربتهما دعوة لنا، نحن أبناء العصر المتسارع، أن نعيد الاعتبار للحظة التأمل، ولصدق السؤال، ولشجاعة الشك. ✒️ منير معاوية علي باحث في العلاقات الدولية 12 ذو الحجة 1446ه‍ 8 يونيو 2025 م

6/8/20251 min read

My post content