فتح مكة : إنتصار ووعي
حينما نقلب في كتب ودفاتر التأريخ ونجول في مختلف الحقب التأريخية يمكن أن نستخلص العبر التي تكون هادياً لنا تطويراً وتحديثاً للإيجابيات وتلافياً وإتعاظاً من السلبيات والأخطاء التي وقع بها من سبقونا، فعندما نعرف أحوال الناس الماضية نستفيد من إجتهاداتهم حيث أن التأريخ من أهم العناصر التي يستند عليها أي مجتمع في تطوره وتقدمه أو إنحطاطه وتدهوره. مرت علينا في الأيام القليلة الماضية ذكرى (فتح مكة) والتي كانت في العشرين من شهر رمضان في العام الثامن الهجري أي قبل حوالي 1432 عام . حيث سار الرسول محمد عليه الصلاة والسلام بجيش قوامه أكثر من عشرة آلاف مقاتل من المدينة المنورة متجهاً نحو (مكة) وذلك بعد أن إنتهكت قبيلة (قريش) التي تحكم (مكة) الهدنة الموقعة مع المسلمين ، حيث قامت (قريش) بإعانة إحدى القبائل المتحالفه معها (بنوبكر) في الإغارة على قبيلة (خزاعة) المتحالفة مع المسلمين ، وبهذا الفعل خرقت قريش المعاهدة (صلح الحديبية) . دخل جيش المسلمين بقيادة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام (مكة) من إتجاهاتها الأربعة ولك أن تتخيل عزيزي القارئ جيش قوامه أكثر من عشرة آلاف مقاتل ويضم هذا الجيش عدد كبير من اللذين ظُلِموا ظلماً فظيعاً من قريش ،فهنالك من عُذِب ومن قُتِل أهل بيته وأقاربه وأصدقائه ومن حُرِمَ من أهل داره . دخل هذا الجيش والكثير منهم يتذكر التضييق والمقاطعة الإجتماعية والحصار الجائر الذي يعرف ب (حصار شِعب بني هاشم) والذي إستمر لثلاث سنوات وقد كان حصاراً إقتصادياً فلايبيعون لهم ولايبتاعون منهم ومنع منهم الطعام وإجتماعياً حيث نُبذوا فلايخالطونهم ولايتزوجون منهم، فإنتشر الجوع والضنك . دخل هذا الجيش الذي عاش جزء منهم هذه الذكريات المريرة من الظلم والبطش والجور والإستضعاف، دخلوا (مكة) أقوياء أعزاء حيث إستسلمت قريش بعد مشاهدتهم هذا الجيش الضخم الذي أحاط (بمكة) من جميع الإتجاهات ولم تكن هنالك أي مقاومة تذكر سوى مناوشة بسيطة بين القوة التي كان يقودها (خالد بن الوليد) وعدد من رجالات قريش وبعض حلفائهم وخَلّف هذا الإشتباك المحدود شهيدان من المسلمين وبضعة عشر قتيل من قريش. قبل دخول جيش المسلمين إلى (مكة) أمر الرسول محمد عليه الصلاة والسلام الجنود بألا يريقوا شيئاً من الدماء وألا يقاتلوا إلا من قاتلهم (بإستثناء عدد محدود من الذين صدرت في حقهم أحكام مسبقة بسبب دمٍ أصابوه أو جُرمٍ إقترفوه وقد عفى الرسول عليه الصلاة والسلام عن عدد منهم). لقد كان الوعي حاضراً في كل مشاهد (فتح مكة) وذلك لأن هذا الوعي بقيادة القائد وهو الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وعندما يكون القائد جاد في نشر الوعي وتنفيذه تكون الإستجابة لأن القائد هو الملهم والقدوة ، وأذكر هنا موقفاً حدث عند دخول جيش المسلمين إلى (مكة) ففي ظل نشوة النصر قال (سعد بن عبادة) وقد كان يحمل راية الأنصار :(اليوم يوم الملحمة ،اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَه،اليوم أذل الله قريشاً) فما كان من النبي محمد عليه الصلاة والسلام بعد أن وصله الخبر إلا وقد أخذ من (سعد بن عبادة) راية الأنصار ودفعها إلى إبنه (قيس بن سعد) وجعله أميراً للأنصار خلفاً لوالده وقال عليه الصلاة والسلام قولته المشهورة (بل اليوم يومٌ تُعَظَّم فيه الكعبة،اليوم يومٌ أعز الله فيه قريشاً). لم يقم هذا الجيش الذي فاق العشرة آلاف مقاتل بأي حملة إنتقامية أو قتل عشوائي أو أي دعوة للمقاطعة الإجتماعية ، حيث حرص الرسول محمد عليه الصلاة والسلام على نشر الوعي بصورة جاده وحازمه. ومن المواقف المشهورة في فتح مكة ما كان من الرسول عليه الصلاة والسلام في شأن مفتاح الكعبة حيث أن مفتاح الكعبة وسدانتها كان في بيت بني أبي طلحة وقد طلب الرسول محمد عليه الصلاة والسلام من (عثمان بن طلحه) قبل الهجرة أن يدخل الكعبة فرفض (عثمان) فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام حينها(لعلك ترى هذا المفتاح في يدي أضعه حيث شئت) ، وعند دخول الرسول محمد عليه الصلاة والسلام إلى الكعبة قال : أين عثمان بن طلحة ؟ فدعي له وهنا كان يمكن أن يقوم الرسول عليه الصلاة والسلام بإعطاء مفتاح الكعبة لمن يشاء ولكنه قال ل(عثمان بن طلحة) (هاك مفتاحك ياعثمان اليوم يوم بر ووفاء). إستقبل الرسول محمد عليه الصلاة والسلام بعد أن إستقر به الأمر بمكة جموعاً من المشركين الذين إحتشدوا حوله ينتظرون ويترقبون ماذا هو فاعلٌ بهم ، وهنا لم يقم الرسول عليه الصلاة والسلام بتوبيخهم أو الإنتقام منهم وكان بمقدور جيش المسلمين إبادتهم ، ولكنه قال لهم (يا معشر قريش ويا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم؟ قالو: خيرا أخٌ كريم وابن أخٍ كريم . فقال لهم : إذهبوا فأنتم الطلقاء). هذا هو الإجراء الذي إتخذه النبي محمد عليه الصلاة والسلام ، العفو والصفح والتسامح إتجاه أناس إستعملوا ضده كل ما أوتوه من قوة ، إنه إجراءٌ لايتخذه إلا العظماء الذين لا تستفزهم الأحداث ولاينتصرون لأنفسهم ولايضمرون مثقال ذرة من غيظ لأحد. (فتح مكة) ملئ بالقصص والعبر التي لو أردنا حصرها يمكن أن نكتب مجلدات . ومن أبرز العبر التي علينا الإقتداء بها من (فتح مكة) إحداى خصائص القائد والتي يجب أن تتوفر في كل قائد شريف يقود مجموعة من الناس وهي (القدرة على التأثير الإيجابي) وبهذه القدرة يتم نشر الوعي بصورة جادة وملحة ، فعلى القائد أن يكون شغله الشاغل نشر القيم الفاضلة وإبتعاده هو ومن يقودهم عن الظلم أو الإنتقام خصوصاً عندما يصبحون في موضع قوة. دخل الرسول محمد عليه الصلاة والسلام (مكة) منتصراً ظافراً، ولكنه وفي قمة موقف الإنتصار دخل متواضعاً مطأطئاً رأسه وذلك ليرسل رسالة لجميع القادة أن هذا الموقف ليس موضع فرح ونشوة إنما موقف تواضع وشكر لله ويكون الفرح والنشوة بهذا التواضع والإعتراف بتوفيق الله سبحانه وتعالى، ويكون أيضاً موضع عفو وصفح وليس إنتقام وتشفي. كل هذه المواقف تدعونا للوقوف مع ذاتنا والتفكر والتدبر والإستفادة من العِبَر وتغليب روح التسامح والتصافي والسعي الجاد لنشر الوعي. ولكم تحياتي 🖋 منير معاوية علي باحث في العلاقات الدولية 📍 الخرطوم 25 رمضان 1440ه 30 مايو 2019م

