قطر في ميزان السلام الدولي

قطر في ميزان السلام الدولي بقلم: منير معاوية علي – باحث في العلاقات الدولية في زمنٍ تموج فيه الأزمات وتتعالى فيه أصوات السلاح، مؤامرات هنا، وتحالفات هناك ، ظلت قطر صوتًا مختلفًا وسط هذا الضجيج. دولة صغيرة في مساحتها، لكنها كبيرة في أثرها، استطاعت أن تؤسس لدبلوماسيةٍ إنسانيةٍ متفردة جعلتها عنوانًا للسلام في عالمٍ مضطرب. من لبنان إلى دارفور، ومن كابول إلى غزة، حملت الدوحة راية الحوار، لتصبح رمزًا للاتزان والضمير السياسي في منطقةٍ أكثر حوجة للحكمة. الحياد الفعّال… أساس الرؤية منذ مطلع الألفية، تبنّت قطر نهجًا جديدًا يقوم على «الحياد الفعّال» لا الحياد السلبي. فهي لا تكتفي بمراقبة الأزمات، بل تنخرط فيها بروح الوسيط لا القاضي، تجمع بين المتخاصمين دون أن تنحاز لأحد. بهذا النهج، نجحت الدوحة في تحويل الحوار إلى أداة قوة حقيقية، قوامها الثقة والمصداقية لا النفوذ والضغط. من لبنان إلى دارفور… بدايات المسار في مايو 2008، فتحت الدوحة أبوابها للفرقاء اللبنانيين بعد أزمةٍ سياسيةٍ دامت عامًا ونصف، لتصوغ خلال خمسة أيام فقط «اتفاق الدوحة» الذي أنهى الانقسام ومهّد لانتخاب الرئيس ميشال سليمان. كان ذلك الاتفاق مثالًا عربيًا مضيئًا لقدرة الحوار على ترميم التصدعات الداخلية. ثم جاء الدور على وطني السودان، حين رعت قطر مفاوضات دارفور التي انتهت في يوليو 2011 بتوقيع «وثيقة الدوحة للسلام»، لتتحول الدوحة إلى مرجعية للسلام في إفريقيا. ولم تكتفِ بالدبلوماسية السياسية، بل تبنّت بعدها مؤتمر المانحين عام 2013 وقدّمت نصف مليار دولار لإعمار الإقليم المنكوب. تسوية النزاعات الإفريقية… نهجٌ مستمر امتدت الجهود القطرية إلى القرن الإفريقي، حيث توسطت بين إريتريا وجيبوتي عامي 2010 و2011 وأبرمت اتفاق وقف النار ونشرت قوات حفظ سلام قطرية حتى عام 2017. كما تدخّلت لاحقًا في الملف التشادي، لتنجح في أغسطس 2022 في جمع الحكومة والمعارضة المسلحة على طاولة واحدة، فخرج «اتفاق الدوحة للسلام في تشاد» ليؤسس لحوار وطني شامل في انجامينا. وفي عام 2024، اتجهت الأنظار نحو مبادرة قطرية جديدة هدفت إلى تهدئة التوتر بين جمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية رواندا، إذ استضافت الدوحة لقاءات مغلقة بحضور الاتحاد الإفريقي أسفرت عن تفاهماتٍ أولية خففت حدة التصعيد بين البلدين. بهذه التحركات الهادئة أثبتت قطر أن السلام ليس نشاطًا موسميًا في سياستها، بل منهج حياة. أفغانستان… سلام بعد السنين العجاف؟ عام 2013، افتتحت الدوحة المكتب السياسي لحركة طالبان، لتتحول لاحقًا إلى ساحة الحوار بين الحركة والولايات المتحدة. وفي فبراير 2020، وُقّع «اتفاق الدوحة» الذي مهّد لانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان. لقد صنعت قطر بهذا الاتفاق تحولًا في مفهوم الوساطة، وانتقلت من دور الوسيط الإقليمي إلى الفاعل الدولي الذي يصنع التوازن بين واشنطن وكابول دون أن يفقد احترام أي طرف. صفقة واشنطن وطهران (2023)… الدوحة أرض الثقة في سبتمبر 2023، نجحت قطر في تحقيق اختراقٍ دبلوماسي بين الولايات المتحدة وإيران، عبر صفقة تبادل سجناء ونقل الأموال الإيرانية المجمدة إلى حسابات إنسانية تحت إشرافها. هبطت الطائرات في مطار الدوحة لتؤكد أن العاصمة القطرية أصبحت ساحة تلتقي فيها الأضداد حين تغيب لغة التفاهم. غزة… ذروة الدبلوماسية الإنسانية (2023–2025) منذ اندلاع الحرب في غزة أواخر عام 2023، تحركت الدوحة بخطواتٍ ثابتة، فجمعت بين الجهد السياسي والعمل الإنساني. في نوفمبر من العام نفسه، نجحت في فرض هدنةٍ إنسانيةٍ مؤقتة بالتعاون مع مصر والولايات المتحدة وتركيا، تضمنت تبادل الأسرى وإدخال المساعدات إلى القطاع. لم تتوقف عند ذلك، بل أطلقت جسرًا جويًا وبحريًا وبريًا لنقل المساعدات الطبية والغذائية إلى غزة، وأنشأت مستشفيات ميدانية، واستقبلت الجرحى في مستشفيات الدوحة. كما أسهمت مؤسسات قطر الخيرية والهلال الأحمر القطري في دعم آلاف العائلات وإعادة تأهيل المرافق الحيوية. في مايو 2025، تُوِّجت جهود الوساطة القطرية باتفاقٍ جديد يقضي بوقفٍ مؤقتٍ لإطلاق النار، وتوسيع نطاق إدخال المساعدات الإنسانية وتبادل الأسرى بين الجانبين. ورغم ما تعرّضت له الدوحة من عدوانٍ إسرائيليٍ غاشمٍ استهدف وفد التفاوض على أراضيها، فإن قطر لم تحِد عن نهجها الإنساني الراسخ، وظلّت ثابتة على مواقفها المبدئية، مكرّسة جهودها لتحقيق الهدف الأسمى: إنقاذ الملايين من أبناء الشعب الفلسطيني المظلوم، وترسيخ قيم العدالة والسلام في المنطقة. قطر والسودان… علاقة تتجاوز الوساطة بالنسبة لنا كسودانيين، لم تكن وثيقة الدوحة للسلام مجرد اتفاق سياسي، بل كانت بداية حياة جديدة لملايين النازحين في دارفور. واليوم، ومع اشتداد الحرب في السودان، تبدو الحاجة ملحّة لأن تقود الدوحة جهود إنهاء الحرب وإرساء سفينة السلام في السودان. فهي الدولة العربية المحترمة التي ما زالت تحظى بثقة الشعب السوداني، لأنها لم تسعَ يومًا إلى مصلحةٍ خفية، بل إلى استقرارٍ شامل يعيد للسودان توازنه. الدوحة في القمم الدولية… صوت الضمير في القمة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية التي استضافتها الدوحة في نوفمبر 2025، عبّر سمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني عن موقفٍ أخلاقي واضح تجاه مأساة السودان بقوله: «لقد صُدمنا جميعًا من فظائع ارتُكبت في مدينة الفاشر بإقليم دارفور، ونؤكد إدانتنا القاطعة لها. لقد عاش السودان هذه الحرب لأكثر من عامين ونصف، وحان الوقت لوقفها عبر حلٍّ سياسي يضمن وحدة السودان وسلامة أراضيه.» كانت تلك الكلمات تلخيصًا لجوهر السياسة القطرية: دبلوماسية قائمة على الضمير الإنساني لا المصالح المتغيرة. من بيروت إلى دارفور، ومن كيغالي إلى كابول، ومن غزة إلى انجامينا، رسمت قطر ملامح دبلوماسيةٍ عربيةٍ نادرة تعيد تعريف القوة والقيادة. لقد اختارت أن تكون طرفًا في الحل لا في الصراع، وصوتًا للسلام حين يسكت الجميع. وفي ميزان السلام الدولي، تبدو قطر أثقل من مساحتها الجغرافية، لأنها حملت همّ الإنسان قبل همّ الدولة، وأثبتت أن الضمير يمكن أن يكون سياسة، إذا وُجدت الإرادة الصادقة، فشتان بين الثرى (من يحمل الشر للبشر) و الثريا (قطر). 🖋 منير معاوية علي باحث في العلاقات الدولية - السودان

منير معاوية علي

11/12/20251 دقيقة قراءة

My post content